رواية (تعاطف) للروائى السودانى (امير تاج السر) الصادرة عن دار ثقافة للنشر والتوزيع بابوظبى فى العام 2011 والتى تقع احداثها فى مائة واثنين واربعين صفحة من القطع الكبير المتوسط ، رواية رائعة جديرة بالقراءة والتوقف عندها وعند ما تضمنته من بانوراما سودانية حافلة بالشجن الأليم والكاريكاتيرات الساخرة فهي تسجيل حي لحياة تشكل تجربة مريرة وموجعة وتلمس بين السطور ملامح مرثية لوطن يتهدم وقيم تتبدد وملامح تتبدل وجدر تنهد وتنهار فوق روؤس من بنوها ، وهذا هو تلخيص موجع ما يدور بارض السودان من تراجع مخيف فى كل شىء الى الوراء .
بطل الرواية (قسم السيد محارب) هو شاهد على عصره ، وهو متفرج فى اغلب الاحوال على ما يجرى بدون ان يستطيع ان يؤثر فى مجرى الاحداث او يصنعها او يغير فيها شيئا ، فيبدو (قسم السيد) العاجز عن (المحاربة) لكل ما يكره ، يبدو دون كيشوتا جديدا يحارب طواحين الهواء بدلا من محاربة خصوم حقيقيين ، ويبدو تجسيدا حيا لحالة عامة إستشرت فى اوساط الشعب السودانى وهى حالة الجمود والسلبية التى لا تتجاوز حد (التعاطف) السلبى و (التهكم) و (السخرية من الذات) وتعذيب الذات المسيحى الذى لا يهز عرش باعوضة ، وهكذا جرت الأمور فى السودان ، كل شىء يتهدم وينهار ، البلاد تتمزق فى الجنوب والغرب وينفصل جزء عزيز فى صمت وحالة من اللامبالاة وغياب رد الفعل هى السائدة ... التعليم والصحة والرياضة والثقافة تنهار مؤسساتها وقيمها وتنحدر الى الحضيض ورد الفعل هو حالة من السلبية ، كل ما لايمكن تصور وقوعه يقع وكل ما تشتهيه الأنفس كرد فعل لوقوعه لا يقع ... الحقائب تحزم واعداد الراحلين الى الخارج تتزايد وأعداد اصحاب الجنسيات المزدوجة تتزيد ، واعداد المهاجرين الى اروقة الفساد والثراء الحرام المفاجئ تتزايد تحتضر الاغنيات والمغنين ويصمت الشعراء والكتاب ويزحف نمل السكر الجديد علي مواقع لايستحقها ويكثر الابطال المزيفون والقادة المزيفون وحتي الكتاب المزيفون
في الرواية نجد مشاهد متنوعة مختارة بعناية من المجتمع السوداني في واقعه الراهن ومعروضة بطريقة ساخرة تتضمن موقفا ناقدا وساخرا من مآل الحال في السودان ، فنجد مشهدا يجسد قصة سفر الفنانات السودانيات الي تلك المقاطعة النيجيرية بدعوة من حاكمها الثري ومامثلته تلك الدعوات من قيم جديدة صاعدة الي السطح ومفاهيم للفن ووظيفته ، يجسد أمير ذلك في الرواية عبر المغنية سنابل صاحبة فرقة اخوال فاطمة الزوجة السابقة لجندي والمغنية الكبيرة المسيطرة صاحبة العربة الهمروصاحبة النفوذ الكبير والتي قدم لها قسم السيد محارب حارس الفندق خدمات جليلة أبرزها عازف الايقاع سفيان كروك رو اهم اعضاء فرقتها، وكذلك كان قسم السيد هو الذي قدمها لحاكم الولاية الاجنبي الذي صار مصدرا لثرائها المفاجئ، والذي عثر عليه في الفندق حيث نزل باحثا عن مغنيات يانعات. فقدم اليه قسم السيد المغنية سنابل. فصار الحاكم بقرتها الحلوب وزاد نفوذها مع ازدياد الثراء ،فباتت تتحكم بنفوذها في بروز المغنيات وتزيح من تتوسم فيها منافسا من طريقها. ويرسم أمير صورة فظة لذوق المغنية وطريقتها في التعاطي مع التجميل فندرك أمام أي نوع نحن من المغنيات.يصورها أمير مشغولة طوال الوقت بتجميل القبيح فيها وتلطيخ وجهها بالمساحيق وحصد المال وهي مع ذلك جشعة متعالية وبخيلة وناكرة للجميل وتتصرف مثل السياسيين المعاصرين فهي ميالة الي الحاق الأذي بكل منافس متوقع أو محتمل، وانتهت علاقة قسم السيد بها الي الوصول الي مفترق الطرق وواجهها علي غير عادته بالرفض العلني للتعاون معها، حين اضطرت ابرز افراد فرقتها للخجرة والرحيل خارج البلاد بحثا عن الرزق وتمردا علي استغلالها البشع له، فتضامن قسم السيد مع عازف الايقاع الذي كان احد اسباب شهرتها، ونفض يدها منها بقطيعة معلنة هي قطيعة مع القبح وممثله الرسمي. وفي نفس الوقت كانت ثمة علاقة (فنية) جديدة تنشأ بين المطربة صاحبة الذوق الفاسد وقاض سابق كانت المدينة تهتز من قسوة احكامه وبطشه، يريد أن يتشاعر ويلج عالم الفن بعد أن شبع من عالم السلطةوالبطش،وتلك شهوة سائدة في السودان المعاصر، فكل من اتسخت يده يحاول غسلها بتقديم نفسه كمثقف موسوعي ومفكر يفتي في كل شئ ، والمغزي هنا أن الزيف طال كل شئ، حتي الساحة الفنية لم تسلم من زحف نمل السكر المنتشي بالسيطرة علي كل مفاصل الحياة. وفي الرواية رصد لمظاهر التفكك الذي طال مؤسسات كانت فيما مضي في مأمن من زحف النمل ( زحف النمل رواية لأميرتاج السر ترصد حالة وثيقة الصلة بموضوع روايته تعاطف)، ونقصد هنا مؤسسة الصوفية التي لعبت دورا مهما ونبيلا في نشر الاسلام وتعاليمه واللغة العربية في السودان وتميز مؤسسيها ورجالها بالزهد والبساطة والبعد عن التكالب علي الدنيا، في رواية تعاطف يصور أمير كيف اهتزت هذه المؤسسة تحت وطاة الطوفان الذي ساد الوطن ، فبرز من داخلها طامعون في الدنيا وبريقها يحاولون عبر جبة الدرويش المرقعة الوصول الي مرامي دنيوية وجسد أمير ذلك الصراع داخل تلك المؤسسة في شخصية (المهدي عربان) الطامع الذي يحاول ان يغتصب سلطة شيخه (المزيون) والاستفادة منها ،ويدرك الشيخ ذلك فيعمل علي تحجيمه والحد من فرص تحقيقه اهدافه، وفي ذلك تصوير بديع مفاده انه لايوجد شخص أو مؤسسة في مأمن مما يجري من صراع اجتماعي طاحن في الوطن بين القبح والجمال.
ويرصد أمير تاج السر وجها آخرا من وجوه الصراع الاجتماعي الدائر ممثلا في مجموعة غير المهمين وهي ثلة صغيرة من المثقفين الافارقة
الذين جعلوا من قضية المهمشين ضرعا يدر عليهم لبنا أسودا دون أن يقدموا لأولئك المهمشين شئيا، فهم يستغلون القضية والشعارات العزيزة للتنقل عبر البلدان والفنادق وجمع المال والرفاهية الشخصية، فهم بذلك المسلك يتساوون مع القابضين علي السلطة في كونهم يستغلون عذابات من يزعمون أنهم يمثلون مطامحهم وأمانيهم لتصبح بقرة حلوبا لهم، تختلف المواقع لكن المسلك واحد والضحية واحد في الحالتين. أنه تصوير بديع لازمة السودان الضائع بين فكي القابضين علي السلطة والمتاجرين باحلام البسطاء. يصور أمير تاج السر انتهازية الشعارات تصويرا دقيقا يجعلنا نشعر أننا نعرفهم بالأسم والموقع فيقول في روايته:) والواقع أن يوسفو ودوقاجي، وسليمان بلو، كانوا بالفعل ، ثلاثة من أكثر الناس الذين بلا أهمية في أفريقيا كلها، لازرعوا حقلا ولاحصدوا غلالا، ولاغنوا ولا رقصوا ولالعبوا كرة قدم، أو حتي حجلة صبيانية، ولا أبدوا رأيا سياسيا أو اجتماعيا في بلادهم قط، وما تأثروا بالعنصرية ولا غيرها أبدا، ولا كانوا أرباب أسر،أو أعضاء حزب أو ناد ليلي،أو حتي ألعاب الورق،وأغاني الصراخ التي يجيدها الرضع في الأثداء، والمشردون في الأزقة، وساكنو علب الصفيح، ما كانوا يجيدونها ، وخريطة أفريقيا نفسها،لم يلقوا عليها نظرة قط، وسئلوا عن ليوبولد سنجور، وأجابوا بأنهم يسمعون باسمه لأول مرة، باختصار شديد، كانوا نموذجا أخاذا للأفريقي المشتعل خمولا حتي في غسيل أسنانه، وسلوك مخرج من مخارج عديدة تناديه باستمرار،ليسلك أحدها.وانشأووا مؤخرا منظمة أهلية ، سموها منظمة غير المهمين، ويسافرون في العالم بلا إنقطاع ، لحصد الأتباع والدعم لها.) تعاطف ص 18
ويصور أمير اهتمام الناس بهولاء الاشخاص الذين يبحثون عن موقع عبر رفع شعارات هم بعيدون عنها بسلوكهم ومحاولاتهم تصوير نفسهم بغير حقيقتهم ويصور تناقضهم في مسلكهم مع الشعارات عبر نظرة العامل البسيط في الفندق قسم السيد لهم (لم تدهشه بعد ذلك حركات سليمان بلو، الذي كان يلم النقود المبعثرة علي الأرض بلا حرج، ويحشو بها جيوب سراويله، ولاتلك الطوابير التي توقفت أمامه في البوابة، وتسأل بضراوة عن ثلاثة أفارقة غير مهمين، يوجدون بالداخل، والصور الكئيبة التي أصر يوسفو، أن تلتقط له، وهو منشرح الوجه،بجانب كومة من الأوساخ في أحد الأركان، نسيت خادمة التنظيف أن تزيلها) تعاطف ص 19.
ثم يقدم امير تاج السر جانبا آخرا من تلك البانوراما السودانية فيقدم نموذج الكونتيسة تلك المرأة المتخفية خلف الاسم الغامض لتدير بيوتا سرية للمتعة محمية باصحاب النفوذ سنين عددا ، وحين يحدث تحول أجتماعي وتفقد حمايتها وتصبح هدفا للسلطة الجديدة تعلن أنها تريد أن تتطهر ليس عن قناعة بل رعبا، وفي النهاية تنتحر وتتصدر صورتها الصحف. ويفقد قسم السيد شخصا يمكن ان يساعده في محنته الخاصة بالمرأة الافريقية التي تظن أن جنا يسكنها وان علاجها في السودان وحين تنفد نقودها يطردها الفندق للرصيف فيتعاطف قسم السيد معها ويحاول حل المشكلة. وتبلغ السخرية مداها حين يجمع أمير تاج السر بين الافريقية الفقيرة المسكونة بجني وبين سعودي ثري يسمي بن بريك يظن أهله انه مجنون وان علاجه عند شيخ المزيون ويتم زواج بين الاثنين ينتهي بالغانية مكسورة اليد ومشردة في الشوارع ثانية ، وحين يراها قسم السيد يفر منها هذه المرة ، معلنا انتهاء حالة التعاطف وتحولها الي حالة اكبر من اللامبالاة ، هي حالة الهروب. والرواية عامرة بمشاهد أخري تصور تداعيات انفصال الجنوب في حياة السودانيين بصورة ساخرةومبكيةوموجعة.
الرواية بانوراما سودانية رائعة وحزينة وليس فيها مثل الواقع بارقة ضوء صغيرة.........لكن متعة القراءة والتأمل لاحدود لهما..وعبقرية أمير تاج السر تسجل له أنه المؤرخ الأمين لتحولات المجتمع السوداني ومايجري تحت الجسر من حراك يتكامل رويدا رويدا كسحب تتجمع منذرة بخريف قادم...خريف تغتسل فيه الأرض وتكنس أوزارها وتضع أثقالها.
صلاح الدين سر الختم علي
مروي
الاول من ديسمبر 2012